وقد ما
قريب يا بكره قد ما انت بعيد ..
أنا المتيم خفيف الظل ..
أنا الصامت ..
راقص في قلب العزا ..
باكي في صبح العيد ..
بتلك الكلمات للشاعر عبد الرحمن الأبنودي أبدأ حديثي تعقيبًا عن ما يحدث في بلدي ويتملكني شعور بالحزن والأسى لما وصلنا إليه من مراحل غاية في الدني والخطورة.
من يعرفني يدرك جيدًا أنني دائمًا أؤكد أنني لست محلله سياسية ولا أميل حتى للكتابات السياسية، فتلك هي المرة الثانية التي أقرر أن أعقب في كلمات لي عن ما يحدث بعد أن كانت المرة الأولى في مقال بعنوان "مفترق طرق" كتبته في مارس 2011 تعقيبا على الاستفتاء على التعديلات الدستورية والتي يبدو أنها كانت بداية الخطيئة.
قبل أن أبدأ في سرد ما سأقول أتمنى من كل من سيقرأ تلك الكلمات أن يولي اهتمامه وتركيزه عند القراءة في المضمون وليست التفاصيل ولا يحاول تصنيفي إلى أي تيار أنتمي، وهل أنا معه فيما يعتقد أو ضده، لأنك لن تخرج بنتيجه إذا بحثت عن ذلك، فإنني أخذت بقلمي لأكتب بعض الكلمات التي يمليها ضميري عليّ عسى أن تنفع من يقرأها وعسى أن تشفع لنا في يوم لا ينفع الوالد ولده.
بدأت نتائج ثورة الخامس والعشرين المجيدة عندما أجريت انتخابات لأول رئيس مدني منتخب وسط عدد من المرشحين من مختلف الأحزاب والتيارات والانتماءات الفكرية وكذلك على اختلاف درجات وطنيتهم، وعندما ظهرت نتيجة المرحلة الاولى لتخيرنا ما بين شخصية وطنية اخوانية أو شخصية تنتمي إلى النظام السابق، أُجبر الكثيرون وأنا منهم على الاختيار الأول حفاظًا على الثورة وإيمانًا منا أن السيء أفضل من الأسوأ، ولم يكن أمامنا مفر أو اختيار، وبعد الوعود والكلمات المتتالية وبعض القرارات من جانب الرئيس اطمئن قلبنا ووصلنا إلى درجة أن التيارات الأخرى ساندته لنعمل سويًا من أجل بناء وطن واحد ونهضة لأمتنا، إلى أن وصلنا لبعض القرارات الفردية التي اتخذت دون العودة لأحد.
وهنا بدأت أسهم الرئيس تقل لدينا، ومع أنني أفترض دائمًا حسن النوايا للشخص الذي أمامي، فإن السياسيين ليست لديهم تلك الكلمة في قواميسهم ومعاجمهم السياسية، فالسياسة لعبة، إما غالب وإما مغلوب، ولا افتراض فيها لحسن النوايا. ظهر الإعلان الدستوري في نوفمبر2012 ليخلق انقسامات لا حسر لها، على الرغم من أنه ليس مرفوض برمته ولكن الاعتراض على مادة بعض مواده التي استشعر العديد من المواطنين والمثقفين والقوى السياسية الخطر منها، فهى تعطي الرئيس حصانه في قراراته وعدم مراجعتها من أي جهة، فعلى الرغم من أنها ستسقط خلال أسبوعان من الآن إلا انها أثارت جدلا كبيرًا من المواطنين والقوى السياسية المختلفة وما هو أبشع من ذلك ....
إن الأبشع من الجدل يا سادة هو الانقسام، فلا مانع أن نختلف في الآراء ولكل جهه الحق في التعبير عن رأيها الذي تقتنع به، ولكن أن نصل إلى الانقسامات فتلك هي المصيبة التي ندعو الله أن ينجي شعبنا منها على خير. إن الانقسام لم يقتصر على انقسام الشارع ولكنه تجاوز وصولا إلى المؤسسات التي تقوم عليها أي دولة، حيث انقسمت مؤسسة القضاء وبيانات من هؤلاء وبيانات من أولئك وتصريحات واجتماعات ونقاشات من كل طرف للتصدي إلى الطرف الآخر داخل المؤسسة الواحدة، وأي مؤسسة .. إنها القضاء الذي يحكم بين الناس بالعدل ويفرق بينهم فيما ينشأ من نزاعات، وصولا إلى الانقسامات بين أفراد الشعب .. بين المواطنين بعضهم البعض، لنصل إلى مرحلة أن يقتل الأخ أخاه والصديق صديقه والجار جاره لمجرد أنني اختلف معك في الرأي وأنت مؤيد وأنا معارض والعكس.
تلك الكارثة التي اتحدث عنها والخطيئة التي لن يغفرها لنا الوطن في حقه ولن تغفرها لنا الأجيال من بعدنا، إذا استمرينا على تلك الوتيرة فنحن نكتب على مستقبل بلدنا وأمتنا بالضياع إلى الأبد، نحن وصلنا إلى مرحلة أن الأخ واخيه والزوج وزوجته في بيت واحد على خلاف دامي لمجرد هل أنت مؤيد أم معارض، وإن كانت الأسرة رأيها موحد حول الموقف فستجد تلك الخلافات مع جارك أو زملائك في العمل أو أصدقاؤك وكأننا في حرب لابد أن يكون الفائز فيها يا أنا يا أنت، إن كم التعصب في الآراء الموجود لا يوصف وكم التعصب في التعبير عن الغضب يشير إلى مزيد من المصائب التي نحن مقبلين عليها، حتى حوار الناس في الشارع - التي لا يعرف بعضها البعض - بمجرد أن يتواجد شخصان في مكان واحد أحدهما مؤيد وأحدهما معارض في وسيلة للمواصلات أو اي مكان عام تبدأ سلاسل من السب والقذف وتصل في بعض الأحيان إلى الاشتباك بالأيدي، وتخوين كل طرف للآخر، وفي النهاية وصلنا إلى اشتباكات بالأسلحة النارية والأسلحة البيضاء في شوارعنا ومياديننا والبقية تأتي ...
نعم يا سادة هذه هي الحقيقة المرة التي لا ينتبه لها الكثيرون، إن يحدث الآن في مجتمعنا هي ((حرب نفسية أهلية)) بما تحتويه الكلمه من معانٍ، وإن لم نلتفت إلى أنفسنا ونستقيم فسنحصد المزيد والمزيد من النتائج المخزية التي لو علمت الأرواح التي زُهقت في سبيل الوطن عندما قامت الثورة أن النتيجة ستكون كذلك لما قامت بتقديم أرواحها فداء للوطن.
وما علينا فعله بسيط وهو أن نتقي شر الفتنة، أن يقبل بعضنا بعضًا، أن ننأى بأنفسنا وبعلاقاتنا مع بعضنا البعض عن أي خلاف سياسي ان كان أو غيره .. أن نضع نصب أعيننا مصلحة الوطن وفقط .. لا مصلحة حزب ولا تيار ولا انتماء .. سواء ان كنت مع قرارات الرئيس ام ضدها .. مع رأي الليبراليين ام ضدهم .. مع الاخوان ام ضدهم، فعلينا أن نعلو فوق كل ذلك وننظر إلى مصلحة الوطن.
إن وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر بخلاف وسائل الاعلام تحولت إلى منابر تخوين .. الكل يخوٍَن بعضه .. فالأحزاب تخوِّن بعضها والتيارات والمواطنون وحتى الأصدقاء في حوار عابر عبر وسائل التواصل الاجتماعي يصلون في النهاية إما للسب والقذف أو إلى قطع العلاقات على أحسن تقدير ليصطف كل منهم تحت مظلة اليمين أو اليسار .. المهم أنك تكون مع أحد التيارين في النهاية .. إما أن تأتي معي أو لابد أن نفترق لنقف في كنف أحد التيارات.
علينا أن نعترف أن هناك شخصيات وعناصر مندسة بيننا تسعى إلى التخريب والوقيعة بين جميع الأطراف ولكن لا يجوز أن نعلق شماعة فشلنا في إدارة الأمور دائمًا على الطرف الثالث المجهول، نعم هناك من يمول مندسين هنا وهناك ويدفع المبالغ الطائلة حتى لا تنهض البلاد ولكن هناك خطأ فادح أيضًا نحن نقوم به دون وجود هؤلاء المندسين .. تلك الحرب النفسية التي باتت واضحة بين المواطنين بعضهم وبعض، والتي سيؤدي استمرارها إلى ضياع المجتمع وحينها ستتكرر تلك الاحداث المؤسفة التي شاهدناها في الايام الماضية من سريان الدم المصري في شوارعنا .. وبيد من ؟؟ .. بأيدينا نحن .. لا بيد الظالمين ولا الطغاة.
على الجميع بما فيهم رئيس الجمهورية أن يعلي مصلحة الوطن، ولا يجوز مطلقًا أن يعوِّل الرئيس أنه بما أن هناك مؤيد ومعارض فأنا ماضٍ في طريقي، فلابد من مراعاة المعترضين، حيث أن تصرفه هذا يكون جائزًا عندما يكون المعترضون هم مِن مَن يعترضون على النظام والقانون (بلطجية)، أما المعترضون الآن - بعيدًا عن النخب السياسية ونواياهم التي لا يعلمها إلا لله وحده - هم مواطنون وشباب هذا الوطن الذي شارك بل وقام بالثورة وحتى إن لم يشارك بها فله حرية التعبير عن رأية ولابد من أخذ رأيهم في الاعتبار عند اتخاذ أي قرار.
وإذا أردنا أن نبني امة ونبني وطن ونبني حضارة من جديد فلابد - على مستوى متخذي القرار - من التروي ودراسة القرار قبل اتخاذه واستشارة من حولي من المعارضين قبل المؤيدين حتى نكون يدًا واحدة وروح واحدة لبناء هذا الوطن، وعلى مستوى الأفراد - كما قلت وسأظل أقول - عليـــــــنا أن نُعلي مصلحة الوطن فوق كل اعتبار وأن يكون لينين في الحوار ونسعى له ولا نتمنع عنه وأن نتوقف عن تخوين بعضنا الآخر، فجميعنا يبغى مصلحة الوطن ولكن من وجهة نظرة.. هذا إذا أردنا لوطننا خيرًا.
إن وطننا وشعبنا الآن يمر بظروف عسرة، فعربة الوطن تتحدر من فوق الجبل، لذا على جميع الأفراد والجهات والمسؤولين والسلطات أن يتكاتفوا سويًا حتي يعيدوا العربه إلى طريقها التي انحرفت عنه .. هذا وإلا ستزداد الحرب النفسية بين المواطنين - وهذا الأخطر، فالسياسيون زائلون .. إنما الاحقاد ستظل قابعة في نفوسنا جيل بعد جيل .. أرجوكم لا تساعدوا في خلقها ولا تروجيها وإلا سنصبح عـــراقًا آخر .. تلك هي الخطــيـــئة التي نرتكبها في حق أنفسنا ووطننا والأجيال الأخرى من بعدنا.
استقيمـــوا يرحمـــكم الله !