الثلاثاء، 15 يناير 2019

النسيـــــــان


استقيظ كل يوم من نومي محاولة النسيان، ولكن يبدوا أن النسيان ليس بتلك السهولة التي يتحدثون عنها في الكتب. ربما تكون جلالة الحدث أصعب من أن تُنسى بتلك السهولة، وربما لقساوته على نفسي، أي كانت الأسباب فالجرح لم يلتأم بعد، وألمه ما تزال جذوره متغلله في أعماقي، أجلس بالساعات محاولة النوم، احتضن أطفالي بقوة، عسى حنانهم يساعدني، وبعد أن يُغشى علي من الإرهاق، يوقظني ألمي من أحلى لحظات نومي التي كنت أظن أنها عميقة.

إرهاصات فكرية وأفكار لا تتوقف عن الدوران برأسي، اتسائل دومًا لماذا، وفي لحظة ما لم يتحمل جسدي ما أفعله به، اضرابات حادة في ضغط الدم وانهيارات مفاجئة لا سبب طبي لها، وكانت المرة الأولى التي أعلم فيها أن الضيق يخفض ضغط الدم ولا  يرفعه كما يشيع بيننا، كأنه يقول لي ألن تكفي عما تفعليه بي! لم أسمعه ولم ألتفت إليه، فأجبرني على الخضوع له، قاومته وأنا على سريري بالمستشفى وظللت أدبدب بقدمي محاولة السيطرة عليه وعلى أطرافي التي تشنجت تمامًا، لكنني فشلت، حاولت السيطرة على دموعي التي تنهمر في أي لحظة وأي وقت أمام صغاري، لكنني فشلت، خاولت التماسك لأجل أمي، ولكن فشلت!
ثم بيعث لي رب العالمين برسائله الربانيه حتى أتعلم، تأتيني الإجابات من هنا ومن هناك حتى أتربي، ربياني أبي وأمي وكنت أعتقد أن الرسالة انتهت، لكنها تبدأ! فهناك تربية الله للعباد وما أعظمها تربية!

الحب شعور عظيم، لكنني أخطات! لم أخطئ عندما أحببت من حولي، وتعاملت معهم بسجيتي وأعطيتهم من كل قلبي، لكنني أجرمت عندما تعلقت! أغفلت حقيقة هامة بأن القلوب بين يدي الرحمن يقلبها كيف يشاء. اليوم نحب وغدًا نكره، اليوم نحن أصدقاء مقربين ولكن غدًا نختلف ونبعُد ثم نلتقي من جديد ولا بأس. لم أكن أؤمن بذلك، كنت أؤمن بأن التقلبات في العلاقات لا تجميع بين الشتيتيْن، بين البارد والساخن، فلابد أن للتقلبات حدود وللأخطاء حدود وللأذى حدود، كنت أؤمن بأن الحياة لا تسير على وتيره واحدة، لكني لم أكن أتخيل أنها ستكون بتلك الحدة والقسوة والفظاظة والعنف،لم يربياني أبي وأمي على ذلك، وعلى الرغم من محاولتهم المستمرة في سرد تجاربهم مع من حولهم حتى أتعلم ذلك، إلا أنه – لسبب غير معلوم – توهمت أني لن أقابل تلك الأنواع من البشر، وإن قابلتها لن أتعامل معها،  لم يخطر ببالي أن تقلبات المقربين ستصل إلى حد الأذى، بل أقصى ما تخيلته هو الضيق! نعم كانت تتمثل تقلبات الحياة بالنسبة لي في بعض الضيق، وبعدها كل شيء سيعود إلى طبيعيته، وينفرج كل شيء. لم أكن أعلم أن للضيق والكرب درجات، لكنني الآن تعلمت!

تعلمت أنني لم أكن أدرك حقيقة الحياة ولا قساوة البشر، وألفت أن القسوة والخذلان يأتي من الأحباب، وألا أثق في من أحبهم الثقة المطلقة العمياء، فهم بشر! أدركت أن لن يفهمني أحد مثل أبي وأمي، ولن يحبني أحد مثلهم، حبهم غير مشروط لن يضاهيه حب ويخلو من الأذى.

تعلمت ألا أتعلق بغير الله،  من ستتعلق به سيؤذيك أو ستفقده. بت أناجي الله بألا أتعلق بأبي وأمي حتى لا أفقدهم، حتى صغاري سأعلمهم أن يحبوني كيفما يشاؤوا ولكن لا يتعلقوا!

تعلمت أن علاقتنا بمن نحبهم ليست معصومة من السرطان. لم أيأس حتى الآن، فاليأس ضعف، وأبي علمني القوة والصمود، ولكنني ما زلت أحاول أن أتعلم التجاوز من أمي، لا أملك سوى الإراده والدعاء بالشفاء والنسيان.

دمتم بخير!